سورة النور - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}
النوع السابع:
اعلم أنه سبحانه لما بين ما على أهل الإفك وما على من سمع منهم، وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا الذم كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره، وليعلم أن أهل الأفك كما عليهم العقوبة فيما أظهروه، فكذلك يستحقون العقاب بما أسروه من محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين، وذلك يدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف الجوارح والقول عما يضربهم، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: معنى الإشاعة الانتشار يقال في هذا العقار سهم شائع إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلاً، وشاع الحديث إذا ظهر في العامة.
المسألة الثانية: لا شك أن ظاهر قوله: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} يفيد العموم وأنه يتناول كل من كان بهذه الصفة، ولا شك أن هذه الآية نزلت في قذف عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فوجب إجراؤها على ظاهرها في العموم، ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيصها بقذفة عائشة قوله تعالى في: {الذين آمَنُواْ} فإنه صيغة جمع ولو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك، والذين خصصوه بقذفة عائشة منهم من حمله على عبدالله بن أبي، لأنه هو الذي سعى في إشاعة الفاحشة قالوا معنى الآية: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} والمراد عبدالله أن تشيع الفاحشة أي الزنا في الذين آمنوا أي في عائشة وصفوان.
المسألة الثالثة: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأعرف قوماً يضربون صدورهم ضرباً يسمعه أهل النار، وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم».
وعنه عليه الصلاة والسلام: «لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة ومن أقال مسلماً صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة ومن ستر عورته ستر الله عورته يوم القيامة».
وعنه عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
وعن عبدالله بن عمر عنه عليه الصلاة والسلام قال: «من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويحب أن يؤتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه».
وعن أنس قال: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن العبد حتى يجب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير».
المسألة الرابعة: اختلفوا في عذاب الدنيا، فقال بعضهم إقامة الحد عليهم، وقال بعضهم هو الحد واللعن والعداوة من الله والمؤمنين، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي وحسان ومسطح، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف فكف بصره، وقال الحسن عنى به المنافقين لأنهم قصدوا أن يغموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أراد غم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وعذابهم في الدنيا هو ما كانوا يتعبون فيه وينفقون لمقاتلة أوليائهم مع أعدائهم، وقال أبو مسلم: الذين يحبون هم المنافقون يحبون ذلك فأوعدهم الله تعالى العذاب في الدنيا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمجاهدة لقوله: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] والأقرب أن المراد بهذا العذاب ما استحقوه بإفكهم وهو الحد واللعن والذم.
فأما عذاب الآخرة فلا شك أنه في القبر عذابه، وفي القيامة عذاب النار.
أما قوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فهو حسن الموقع بهذا الموضع لأن محبة القلب كامنة ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات، أما الله سبحانه فهو لا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهاية في الزجر لأن من أحب إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك منه وإن علمه سبحانه بذلك الذي أخفاه كعلمه بالذي أظهره ويعلم قدر الجزاء عليه.
المسألة الخامسة: الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق فسق، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة.
المسألة السادسة: قال الجبائي دلت الآية على أن كل قاذف لم يتب من قذفه فلا ثواب له من حيث استحق هذا العذاب الدائم، وذلك يمنع من استحقاق ضده الذي هو الثواب، فمن هذا الوجه تدل على ما نقوله في الوعيد، واعلم أن حاصله يرجع إلى مسألة المحابطة وقد تقدم الكلام عليه.
المسألة السابعة: قالت المعتزلة: إن الله تعالى بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة، فلو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو، فكان يجب أن لا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة وغيره لم يفعل شيئاً منها، والكلام عليه أيضاً قد تقدم.
المسألة الثامنة: قال أبو حنيفة رحمه الله: المصابة بالفجور لا تستنطق، لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وذلك ممنوع منه.


{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}
النوع الثامن:
وفيه وجوه:
أحدها: أن جوابه محذوف وكأنه قال لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم لكنه رؤوف رحيم، قال ابن عباس الخطاب لحسان ومسطح وحمنة، ويجوز أن يكون الخطاب عاماً والثاني: جوابه في قوله: {مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور: 21] والثالث: جوابه لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة وهو قول أبي مسلم، والأقرب أن جوابه محذوف لأن قوله من بعد {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ} [النور: 21] كالمنفصل من الأول فلا يجب أن يكون جواباً للأول، خصوصاً وقد وقع بين الكلامين كلام آخر، والمراد أنه لولا إنعامه بأن بقي وأمهل ومكن من التلافي لهلكوا، لكنه لرأفته لا يدع ما هو للعبد أصلح وإن جنى على نفسه.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}
النوع التاسع:
قرئ خطوات بضم الطاء وسكونها، والخطوات جمع خطوة وهو من خطا الرجل يخطو خطواً، فإذا أردت الواحدة قلت خطوة مفتوحة الأول، والجمع يفتح أوله ويضم، والمراد بذلك السيرة والطريقة، والمعنى لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والله تعالى وإن خص بذلك المؤمنين فهو نهي لكل المكلفين وهو قوله: {وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر} ومعلوم أن كل المكلفين ممنوعون من ذلك، وإنما قلنا إنه تعالى خص المؤمنين بذلك لأنه توعدهم على اتباع خطواته بقوله: {وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان} وظاهر ذلك أنهم لم يتبعوه، ولو كان المراد به الكفار لكانوا قد اتبعوه، فكأنه سبحانه لما بين ما على أهل الإفك من الوعيد أدب المؤمنين أيضاً، بأن خصهم بالذكر ليتشددوا في ترك المعصية، لئلا يكون حالهم كحال أهل الإفك والفحشاء والفاحشة ما أفرط قيحه، والمنكر ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه.
أما قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً} فقرأ يعقوب وابن محيصن ما زكى بالتشديد، واعلم أن الزكي من بلغ في طاعة الله مبلغ الرضا ومنه يقال زكى الزرع، فإذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى سمى زكياً، ولا يقال زكى إلا إذا وجد زكياً، كما لا يقال لمن ترك الهدى هداه الله تعالى مطلقاً، بل يقال هداه الله فلم يهتد، واحتج أصحابنا في مسألة المخلوق بقوله: {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاء} فقالوا التزكية كالتسويد والتحمير فكما أن التسويد تحصيل السواد، فكذا التزكية تحصيل الزكاء في المحل، قالت المعتزلة هاهنا تأويلان: أحدهما: حمل التزكية على فعل الألطاف والثاني: حملها على الحكم بكون العبد زكياً، قال أصحابنا: الوجهان على خلاف الظاهر، ثم نقيم الدلالة العقلية على بطلانهما أيضاً أما الوجه الأول: فيدل على فساده وجوه:
أحدها: أن فعل اللطف هل يرجح الداعي أو لا يرجحه فإن لم يرجحه ألبتة لم يكن به تعلق فلا يكون لطفاً، وإن رجحه فنقول المرجح لابد وأن يكون منتهياً إلى حد الوجوب، فإنه مع ذلك القدر من الترجيح إما أن يمتنع وقوع الفعل عنده أو يمكن أو يجب، فإن امتنع كان مانعاً لا داعياً، وإن أمكن أن يكون وأن لا يكون، فكل ما يمكن لا يلزم من فرض وقوعه محال، فليفرض تارة واقعاً وأخرى غير واقع، فامتياز وقت الوقوع عن وقت اللاوقوع، إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أو لا يتوقف، فإن توقف كان المرجح هو المجموع الحاصل بعد انضمام هذا القيد، فلا يكون الحاصل أولاً مرجحاً، وإن لم يتوقف كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع والآخر باللاوقوع ترجيحاً للممكن من غير مرجح وهو محال، وأما إن اللطف مرجحاً موجباً كان فاعل اللطف فاعلاً للملطوف فيه، فكان تعالى فاعلاً لفعل العبد الثاني: أنه تعالى قال: {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاء} علق التزكية على المشيئة وفعل اللطف واجب، والواجب لا يتعلق بالمشيئة الثالث: أنه علق التزكية على الفضل والرحمة وخلق الألطاف واجب فلا يكون معلقاً بالفضل والرحمة وأما الوجه الثاني: وهو الحكم بكونه زكياً فذلك واجب لأنه لو يحكم به لكان كذباً والكذب على الله تعالى محال، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ فثبت أن قوله: {ولكن الله يُزَكّي مَن يَشَاء} نص في الباب.
أما قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فالمراد أنه يسمع أقوالكم في القذف وأقوالكم في إثبات البراءة، عليم بما في قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهيتها، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8